لا يمكن مناقشة مواد الدستور ومراد المشرع الدستوري وتفسير النص دون العودة إلى محاضر جلسات لجنة الدستور حيث يتجلى للقارئ حدود تطبيق النص ومغزى الأخذ به دون غيره.
لذا كنت حريص على نقل التسلسل التاريخي لنص المادة الثانية ومراحل اقرارها وهي كالتالي:
التسلسل التاريخي للمادة الثانية
الجلسة الثانية
السبت 1962/3/24
يتلو الخبير القانوني محسن عبد الحافظ مسودة الدستور التي اعدها بنفسه ( قبل وصول الخبير الدستوري د.عثمان خليل الذي اعد بدوره مسوده كانت هي المعتمدة من اللجنة )
المادة الثانية " دين الدولة الاسلام ، والشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع "
ويشرح النص المقترح ويقول "... وتعني الفقرة الثانية ان الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع وهذا ليس معناه انها المصدر الوحيد بل هناك مصادر اخرى "
الجلسة السابعة
الثلاثاء 1962/5/22
بعد وصول الخبير الدستوري د.عثمان خليل عرض على اللجنة مسودة الدستور التي اعدها بطلب من المجلس
حيث تلى نص المادة الثانية المقترح " دين الدولة الاسلام ولغتها الرسمية هي اللغة العربية "
تحدث وزير العدل هنا قائلًا :
كانت في المشروع الاول الذي وزع علينا عبارة تقول " والشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع " ولكنها غير موجودة في المشروع الثاني وهذه العبارة مهمة خصوصًا عندنا.
الخبير الدستوري د.عثمان خليل :
بعد أن وضعت العبارة في المشروع الاول لم اوردها في المشروع الثاني لا بقصد العدول عنها وانما لانه ربما يكون الافضل ان توضع في القانون المدني باعتباره اصل القوانين الاخرى ولانني خشيت من وضعها بصيغة المصدر الرئيسي ان تحدث لبسا في المستقبل وتسبب متاعب في صدور القوانين الغير المأخوذة من الشريعة او التي تكون محل خلاف في الشريعة ... فازاء هذا اللبس المحتمل آثرت ان يكون مكان العبارة في القانون المدني كما فعل القانون المدني المصري.
الشيخ سعد العبدالله وزير الداخلية :
هذه العبارة مهمة.
الخبير القانوني محسن عبدالحافظ :
للعبارة فائدتها وهي موجودة في الدستور الباكستاني والمقصود ان الشريعة ليست المصدر الوحيد بل هي احد المصادر.
السيد حمود الزيد الخالد وزير العدل : صحيح قد يخشى حصول لبس في شأن القوانين التي لا تؤخذ من الشريعة.
السيد سعود العبدالرزاق :
يمكن الاحتفاظ بالعبارة بهذا المعنى الذي يمنع اللبس.
الخبير الدستوري د.عثمان خليل :
اذا شئتم الابقاء عليها في الدستور فلا مانع انما يحسن ان نستعمل عبارة اكثر مرونة فنقول " والشريعة الاسلامية مصدر رئيسي للتشريع " بمعنى وجود مصادر رئيسية اخرى غيرها.
الجلسة التاسعة
يوم الخميس الموافق 1962/5/31
هنا بدأت اللجنة تناقش مشروع الدستور للمرة الثانية
السيد سعود العبدالرزاق :
العبارة التي وردت في المادة تنص على أن دين الدولة الاسلام والشريع الاسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع وانا اطلب اضافة كلمة "هي" فتصبح الشريعة الاسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع حتى تصبح الشريعة الاسلامية هي المصدر الذي يؤخذ به لاننا لا نريد ان نهمل ديننا.
....
د.عثمان خليل :
حتى لو ادرجنا كلمة "هي" فلن يتغير المعنى وتصبح الشريعة الاسلامية مصدرًا رئسيًا من مصادر التشريع كما اننا في العصر الحديث وهذا العصر له متطلبات لا يمكن انكارها ولا الانعزال عنها والكثير منها ليست الشريعة مصدره وفي الشريعة الاسلامية نظرية المصالح المرسلة و الاستحسان وما ذلك الا لمواجهة التطور ولعدم الانعزال عنه واعتبار الشريعة مصدر الرئيسي قد يقتضي الغاء قانون الجزاء مثلًا او الغاء البنوك ونظام التامين ...
*وبعد مناقشة وافق جميع اعضاء اللجنة على المادة كما وردت في المشروع المقترح ما عدا السيد سعود العبدالرزاق.
الجلسة الثامنة عشر
يوم الثلاثاء الموافق 1962/10/3
اللجنة تناقش بعض المواد التي تتطلب تفسيرًا في المذكرة التفسيرية للدستور
الخبير الدستوري د.عثمان خليل :
بالنسبة للمادة الثانية من مشروع الدستور ونصها " دين الدولة الاسلام والشريعة الاسلامية مصدر رئيسي للتشريع " يلاحظ ان هذه المادة قد دار حولها نقاش طويل واظن ان النص الموجود في المشروع يفتح الباب لأن يؤخذ المشرع بالشريعة الاسلامية كاملة اذا رغب ويمكن ان نضع لهذه المادة تفسيرًا في امذكرة الايضاحية ليكون بعيدًا عن اللبس واقترح ان يوضع التفسير الذي يفيد ان النص الحالي يجعل شريعة الاسلامية مصدرًا رئسيًا للتشريع وهذا لايلزم المشرع الزامًا حتميًا بالاخذ بكل احكام الشريعة الاسلامية مئة في المئة ولكنه لا يمنعه من ذلك فهو فوض امر للمشرع ليأخذ بالقدر الذي يراه ممكنًا من احكام الشريعة ويدعوه للتوسع في ذلك لاقصى حد مستطاع.
السيد سعود العبدالرزاق :
هل يمكن للمشرع أن يأخذ بالشريعة الاسلامية مئة في المئة من اول يوم من تطبيق الدستور
الخبير الدستوري د.عثمان خليل :
نعم يمكن ان يؤخذ بالشريعة الاسلامية كاملة من اول يوم اذا اراد المشرع ذلك.
*فوافقت اللجنة على وضع هذا التفسير للمادة في المذكرة التفسيرية وابقاء المادة على ما هي عليه.
هذا الاستعراض هو موجز لما تم في لجنة الدستور وقد دار نقاش أيضًا في المجلس التأسيسي ولكنه كان مشابًها لهذا الذي نقلته لكم.
من خلال هذا الاستعراض نجد أن النص بدايةً كان بوجود ال التعريف ليس لان الخبير القانوني أراد للشريعة ان تكون مصدرًا وحيدًا للتشريع بل لأنه يرى أن حتى بوجود ال التعريف لا تجعل الشريعة مصدرًا وحيدًا للتشريع.
وبعد وصول الخبير الدستوري د.عثمان خليل وانضمامه للجنة قدم تصوره لمشروع الدستور وقد استبعد النص بأن الشريعة الاسلامية مصدراً للتشريع واقترح وضعها في القانون المدني لكي يتجنب اللبس مستقبلًا (وهو ما يحصل لدينا الآن) إلا أن اصرار اعضاء اللجنة اعاد النص ولكن دون ال التعريف وذلك لعدم وضع المشرع في ريبة وشك من جواز الاخذ بغير الشريعة الاسلامية.
ثم في المناقشة الثانية لمواد مشروع الدستور وافقت اللجنة على النص المقترح السالف الذكر باستثناء السيد سعود العبدالرزاق الذي اراد اضافة كلمة "هي" ليكون النص "هي مصدر رئيسي للتشريع".
وأخيرًا عند وضع المذكرة التفسيرية للدستور اقترح د.عثمان خليل وضع تفسير للمادة الثانية لكي يزيل أي لبس مستقبلي في حدود تطبيق النص ومراد المشرع الدستوري منه.
وخلص المشرع الدستوري
ليكون نص المادة الثانية
" دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع "
ويكون تفسيرها في المذكرة الايضاحية للدستور
" ... كمـا يلاحظ بهـذا الخصـوص ان النص الوارد بالدستور - وقد قرر ان -الشريعة الاسلامية مصدر رئيسي للتشريع - انما يحمل المشرع امانة الاخذ باحكام الشريعة الاسلامية ما وسعه ذلك ، ويدعوه الى هذا النهج دعوة صريحة واضحة ، ومن ثم لا يمنع النص المذكور من الاخذ، عاجلا او آجلا، بالاحكام الشرعية كاملة وفي كل الامور، اذا رأى المشرع ذلك."
النتيجة
اذن بات جليًا امامنا أن نص المادة الثانية لا يمنع المشرع من الأخذ بالشريعة الاسلامية بل حمله أمانة الأخذ بالشريعة الاسلامية متى ما كان ذلك ممكنًا، بل أن الدستور الكويتي اهتم بالطابع الاسلامي للمجتمع ومثال ذلك استلزام أن تكون قواعد الميراث وفق الشريعة الاسلامية (مادة 18) وهي بذلك تسبغ الحماية الدستورية لهذا الموضوع.
نعود للدعوات بتعديل المادة الثانية من ناحية سياسية
ولنأخذ امكانية التعديل الدستوري من جانب حسابي فالتعديل الدستوري يحتاج أولًا أغلبية خاصة للموافقة على مبدأ التعديل وموضوعه وهنا يلزم موافقة ٢٣ عضوًا وسمو الأمير وبعد هذه الموافقة المبدئية يلزم توافر اغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس أي ٤٤ عضوًا وموافقة سمو الامير.
ونتساءل هل من السهل توافر هذا العدد والموافقة من سمو الامير؟؟
وكم من الوقت يحتاج النواب لحشد الرأي العام لخلق تأييد لهذا التعديل؟؟
وكيف سيكون ذلك؟؟
وكم من الوقت سوف تنشغل الساحة السياسية بهذا الامر وكم يفوت الجدل الذي سيدور حول التعديل من فرصة ووقت قد يستثمر في اولويات انتخب المجلس بهذه الاغلبية لينفذها؟؟
تقديم التعديل كبراءة للذمة !!
بعد أن تبين لنا صعوبة التعديل الدستوري للمادة الثانية لنرى إمكانية اسلمة التشريعات العادية (التي حمل المشرع مسؤولية الاخذ بها ما امكنه ذلك) بمقابل هذا التعديل.
إن تعديل التشريعات فهو لا يحتاج سوى الاغلبية العادية النصف + ١ وتصديق الامير وان طلب الامير رد القانون لاعادة النظر يستطيع المجلس تجاوز هذا الاعتراض التوقيفي من خلال وجود اغلبية ٤٤ عضوًا يشكلون ثلثي أعضاء المجلس.
مع هذه المعادلة البسيطة هل سوف تبرأ ذمة الاسلاميين من تطبيق الشريعة؟؟
قطعًا لن تبرأ،،
تجارب دستورية سابقة عربيًا لموضوع المادة الثانية
في الدستور السوري لعام ١٩٥٠ وتحديدًا في مادة الثالثة منه (الفقة الاسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع) ولقد عدلت هذه الصياغة في دستور ١٩٥٣ (الفقه الاسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع) حيث واجه المشرع صعوبات في تطبيق هذا النص الدستوري.
وكذلك في مصر حيث كان دستور ينص في مادته الثانية على أن (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) وفي عام 1980 عدلت بإضافة "ال" عن طريق استفتاء شعبي.
ونظرة بسيطة على التشريعات المصرية بعد التعديل تنبئ عن أن التعديل لم يكن سوى طُعم وضع لإدخال تعديلات أخرى اسفرت عن ثورة يناير 2011 !!!
أخيرًا
شخصيًا أرى بعدم جدوى هذا التعديل وأرى أن يفتح الباب لتطرف البعض.
ولكن اذا كان هذا التعديل وجد الاغلبية اللازمة له فإن ذلك يعني أن الأمة بغالبيتها تريد ذلك وهذا مشروع مادام وفق الأطر المقررة دستوريًا ، ولكن المتابع للشأن الداخلي يجد أن الغالبية التي تشكلت في مجلس الأمة مؤخرًا لم تكن المادة الثانية ضمن أولوياتها لذا كان حريًا بكتلة الأغلبية وكتل الاسلاميين تحديدًا السعي لتنفيذ وإقرار التشريعات التي خرج المواطنون لايجادها و يوفروا كل جهد سيضيع لتعديل المادة الثانية لما هو أهم.